الفصـــــل الرابــــــع: الناقـــــــة الأم
كثير من الشعراء وصفوا الناقة وربطوها بالأطلال والرحلة والصيد، ولكن مصطفى ناصف ينظر إليها
بمنظار أنتروبولوجي إذ يعتبرها
ظاهرة جماعية رمزية موروثة في العقل الباطن للإنسان العربي في امتداد طفولته البدائية والفطرية والحضارية. ومن هنا فالشاعر
الجاهلي يفكر في ذات المجتمع أكثر مما
يفكر في ذاته الفردية. وهناك الكثير من الشعراء الفحول والمجودين الذين أحسنوا وصف الناقة. ومن النماذج التي نذكرها في هذا
المجال قصيدة ثعلبة بن صعير بن خزاعي
المازني التي يقول فيها:
وإذا خليلك لم يدم لك وصلـــه فاقطع لبانته بحرف
ضامــــــر
وتعبر الناقة عن مظهر النمو العقلي والروحي في الشعر الجاهلي.والناقة ماهي إلا تعبير عن فكرة الثبات والقهر
والصمود بسبب قوة الناقة وصبرها
وتحديها لعوادي الزمن والطبيعة. وقد بذل الشعراء مجهودا كبير في استقصاء قدسية الناقة الأم عبر رصد المشبهات والصور الشعرية
لتجسيد أمومتها وطابعها القدسي عند
العرب. وإذا كان الفرس أشبه بالأبوة عند العرب فالناقة أشبه الأشياء بالأمومة القوية. لذلك اقترنت بالنخلة في أذهان العرب. إنها أمومة
صابرة قادرة راغبة يطبعها استمرار
الحياة. كما تدل الناقة الأم على السيادة والجمال والذرية والخصوبة وهي أشبه بحاضر مستمر لا يتغير ولا يزول. ومن ثم تتمتع
الناقة بالقوة الخيالية فوق البشرية.
وتحضر الناقة بمثابة مفتاح للبركة والخير والرحمة ، بينما يوظفها زهير بن أبي سلمى كمفتاح للعذاب والعقاب من خلال استحضار صورة
ناقة صالح. إذاً، عندما تقترن الناقة
بالحمار الوحشي تصبح رمزا للصراع والحروب ، وهي أيضا رمز للهموم المقلقة عند المثقب العبدي، ورمز للعمل والحركة الدائبة عند ابن
الطبيب في لاميته المشهورة. كما تعبر
الناقة عن فكرة المحاولة والعمل المتلاحق.
وينكر مصطفى ناصف" فرضية الاستطراد
في قصة الناقة، وصلتها بثور الوحش أو الحمار الوحشي أو الظليم، فهو يرى أن الصورة التي تتداعى في ذهن الشاعر إنما هي جزء من
طقوس جليلة مقدسة.
وفي نهاية
حديثه عن الناقة من خلال سينية امرئ القيس يرى الدكتور ناصف أنه ليس هناك شك إذا نظرنا في أساطير العرب في العصر الجاهلي، في أن
الناقة لم تكن مجرد حيوان، فالعالم
أو المتحضر قد ينظر بعقله ولكن الشعراء خاصة يحتضنون الأشياء بخيالهم وحواسهم، يعني أن الناقة كانت حيوانا مقدسا في بعض
الأحيان".
إن الناقة في الشعر
الجاهلي لتعبير حقيقي عن الصراع المأساوي والتوتر الدرامي الذي يعيشه الإنسان في فترة ما قبل الإسلام بعد أن فقد الإنسان الكلية
المطلقة و الوحدة الملحمية ليعيش التمزق
الذاتي والموضوعي ويعرف وجوده انشطارا بين الإنسان والواقع بكل أبعاده المادية والروحية.
تعليقات
إرسال تعليق